الأكثر زيارة

الأحد، 10 يوليو 2011

حديث سريع عن الرياض التي لم تعد تتنفس !!

لو قدّر لك أن تغيب عدة أشهر عن الرياض وعدت إليها لوجدت أن شيئاً لم يتغيّر باستثناء أضواء الزينة التي تستطيع أن تراها فقط إن تصادف وقت عودتك مع العيدين اللذين أنضم إليهما اليوم الوطني على استحياء وبعد تردد وممانعة شديدين. هذا يعني أن هذه المدينة المقدر لها أن تكون عاصمة لمملكة هي الأغنى في العالم من حيث النفط ومشتقاته لا تتحرك كثيراً إلا بمقدار ما يخطوه فرس أصيل في عالم الطائرات والصواريخ سابقة الصوت والهمس والنظر.

إن كانت العاصمة الإدارية لا تتحرك ولا تقوم بدورها في قيادة شعلة التنوير والتثقيف الاجتماعي والفكري فإن ذلك يمكن أن يلقي بظلاله على مدن أخرى قُدِّر لها أن تكون تحت سلطة مدينة لا تتحرك ولا تتنفس وتنظر إلى الآخرين نظرة متعالية. لم يسجل للرياض خلال العقدين المنصرمين أي تحرك يجعلها حقاً المدينة التي يمكن أن تقود تيارات كبيرة من المدن والبشر ممتلئين بالعقائد والأفكار والعادات والتقاليد المتوارثة منذ الأزل.

حتى وإن حاولت الرياض أن تخرج قليلاً عن سربها المحافظ الصامت فإنها تنفذ ذلك على طريقتها الخاصة التي لا يشابهها شيء في الأرض. هي المدينة الوحيدة التي يمكن أن تحتضن مسرحية تنتقد التطرف الديني لكن في ظل حضور مغلق ومحاط بالأسلاك الشائكة والقوى الأمنية كما حدث حين تم بث مسرحية "وسطي بلا وسطية".

هي المدينة الوحيدة التي تخشى أن تضع لوحة إعلانية عن نشاط ثقافي مسرحية لأن ذلك سيؤلب عليها الأعداء الذين تسمع أصواتهم كثيراً وأفعالهم قليلاً حين يجدون ظرفاً مناسباً يستطيعون خلاله أن يمرروا ضربتهم ويعطلوا "المدينة المملكة" عن التقدم والحداثة والتحديث.

وهي المدينة الوحيدة التي يمكن أن تشاهد فيها اللوحات الإعلانية المطموسة أعين أبطالها باعتبار أن ذلك مخالف للعقيدة، على الرغم من أن مدينة مكة المكرمة مهد الإسلام وما جاورها يتمتعون بنسبة حرية أكبر؛ فلم يعد يعرف الآن أين مكة بالتحديد، أهي في الوسط أم هي المعروفة جغرافياً بأنها في الغرب المتحرك المتفاعل مع الآخر منذ الأزل.

ويمكن أن تعدد قائمة تطول بعجائب هذه المدينة وتحركاتها. إنها وإن كانت تدعي بأنها آخر القلاع في وجه التحرر، فهي تمارس في الخفاء أكثر ما يمارسها أخواتها من المدن الأخرى ظاهراً غير باطن بعد أن تخلصن من عقدة الانفصام النفسي والازدواجية الفكرية.

رغم ذلك تعتقد الرياض أنها الأفضل. تنظر إلى سائر الرقاع الجغرافية في المملكة نظرة متعالية، وتصنفها بأنها مجرد مدن، مجرد مبانٍ، مجرد سكان، مجرد هامش على الهامش لا مستقبل له. تظل تسخر من المهاجرين إليها من المدن الأخرى، وتحت نظارتها التي يمكن أن تكون تصنيفية في غالب الأحيان ستجد أن هؤلاء البشر الذين يحملون بطاقة هوية وطنية واحدة هم مجموعة دول؛ فهناك من آتى مع رحلات الحجاج، وهناك من جاء عن طريق البحر من قارة السواد والذهب والعبودية، وهناك من جاء من بداوة صحارى الشمال ومواريثها ودولها، وهناك من جاء من جنوب الجزيرة وقراها وارتباطاتها الجغرافية .. الخ.


وحين تريد الرياض أن تضحك فإنها تقوم بالمرور على لهجات كل تلك المناطق المحيطة بها وتتخذ منها مادة للتسلية الساخرة، دون أن تعرف أن تلك المدن لها التحرك والتنفس في المدار الطبيعي، أما هي فظلت حبيسة نفسها وأفكارها وعقدها النفسية.

لا تعرف كيف تفسر هذا الجمود في مدينة كانت القائدة والملهمة لصناع البلاد والتاريخ وفرسان التحولات الذين صنعوا أهم وحدة وطنية في العالم العربي في رحلة كفاح كان نجاحها محاطاً بالشكوك؛ إلا أنها فعلتها وحققت الهدف بينما العالم ينظر مستغرباً ومستفسراً.

لقد تغيرت الرياض كثيراً عن تاريخها السابق اللافت: اختفت المسرحيات التي كانت تجلب ألافا مؤلفة من الشباب، اختفت الحفلات الموسيقية الراقصة في الطرقات والشوارع، اختفت دور السينما الديمقراطية التي كان الفيلم المشاهد يعتمد على اختيار المتفرجين، واختفت الكثير الكثير من الأشياء المبهجة بإنسانيتها البريئة .. الكثير الكثير.

حين تيمم غرباً على الخريطة الجغرافية المليئة بالرمال والنفط ترى كيف تحولت عاصمة صغيرة على شاطئ البحر الأحمر مثل جدة إلى قبلة للحوار والتوافق والاختلاف والخلاف والتصالح مع النفس. وعلى الرغم من كونها العاصمة الثانية فإنها أحياناً تقفز إلى الكرسي الأولى وتنتزع من الكعكة كل ما تتركه الرياض، أو ما تخاف من أكله.

 وحين لا تتصدى العواصم إلى دورها التاريخي فعليها أن تغير جلدها أو نفسها أو تركن إلى دكة الاحتياط حتى حين.
جيل الرياض الذهبي مكسور الجناح معذب وهو يرى مدينته قاد تغيرت وطال ذقنها أكثر من اللازم الذي نصت عليه الشريعة السمحاء. حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة المسلمين الثاني كان يوصي أصحابه من رعيل الإسلام الأول بالتخفيف من اللحية مقدار قبضة يد، فهل من عمر ثاني في مدينة الأمل رغم كل شيء؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق