الأكثر زيارة

الأربعاء، 20 يوليو 2011

مرّاكش الحمراء:هنا تعلّم تشرشل رسم الطبيعة


وسط هذه الأجواء الحمراء لمرّاكش المغربية كان رئيس وزراء بريطانيا وقت الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل يقتطع من أيامه وقتا ليرسم الطبيعة. الجنود متحفزون على الجبهات البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، وتشرشل رفقة لوح الرسم والألوان، يمضي إلى المدينة ونخيلها وقرميدها الأحمر. المدينة تبدو ودودة كونها تلتصق بالأرض بشكل حميمي. كما أنها القبلة الأبرز للسواح الآتين إلى مملكة محمد السادس من مختلف الرقاع الجغرافية في العالم.


وصلنا المدينة بعد منتصف النهار بقليل. مضيت وبكر عويضة صباحا عبر القطار من الدار البيضاء إلى مراكش. الصباح كان موعدنا في بهو فندق انفا، قبل المضي إلى محطة القطار، حيث سبقنا مسافرون كثر يحملون حقائب صغيرة، ونظارات شمسية تزدهر بشراسة لتغطي الأعين من ضياء الشمس الخفيض. وصلنا باكراً إلى المحطة. لا بد من فنجان قهوة سوداء ليستقيم صباح بكر. هكذا نفعل لدقائق في المقهى المُلحق بالمحطة، ومن ثم نقفل عائدين إلى حيث قطارنا.

الشمس وادعة لا إيذاء فيها، حتى أن الأظلاف الحديدية للقطار دافئة الملمس. ننتظر ريثما يأتي قطار مرّاكش. بكر يفضل الانتظار تحت أشعة الشمس، على الرغم من أنه كان يتضايق من شمس لندن. بكر الذي أمضى أكثر من نصف عمره داخل المملكة البريطانية العُظمى، يتضايق حينما تبزغ شمس في سماء لندن الضبابية.

القطار عربي بامتياز، كونه تأخر عن موعده نحو ربع ساعة، فيما كان بكرنا قبل قليل يتعجل احتساء القهوة مشددا على دقة مواعيد قطارات المغرب. نصعد القطار حاملين حقائبنا إلى القمرة التي نتجاور فيها، كرسياً في صف كرسي. نتهيأ في مقعدينا بعدما اكتمل عدد الجالسين في القمرة ذاتها. بعد دقائق من مضي القطار ينتزع بكر مظروفاً أبيض من حقيبته الجلدية. يفضُّ المفروض فتظهر كل الصحف المغربية وقد طويت جميعها.

أول ما يبادر الى قراءة صحف مؤسسة "مجموعة ماروك سوار" التي يملكها ناشر "إيلاف" عثمان العمير، والتي يعمل بكر كأحد مستشاري تطويرها. تلتهم عيناه صفحات "لوماتان" الناطقة باللسان الفرنسي، وهي أكثر صحف المؤسسة توزيعاً وإعلانات، رغم انه لا يقرأ الفرنسية، يراجعها بتمعن، يهمس ببعض الملاحظات في التبويب والاخراج والعناوين، يقول ان الصحافة، كما الموسيقى والرسم في بعض الجوانب، عدم اتقان اللغة ليس عائقا طالما ان التعاطي لا يتطلب القراءة والتحرير.

يطول الحديث بيننا، فالرحلة تستغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة، قبل الوصول إلى مرّاكش الحمراء، حيث بيت عثمان العمير، ومكتبه ومكتبته وادوات اتصاله بالعالم. اشغل الوقت باستنطاق ذكريات بكر من بدء احترافه الصحافة في ليبيا سنة 1968 الى أواخر أيامه في "الشرق الأوسط" في موقع مساعد رئيس التحرير.

 يقول لي ان فكرة التقاعد بدأت تحوّم فوق رأسه كفراشة حول مشعل ضوء، منذ يونيو 1998، يومها طلب منه العمير التريث قليلا، وأخفى عنه المفاجأة الكبرى، مفاجأة كان لها وقعها في الوسط الصحافي كله، في لندن وخارجها. العمير نفسه كان يخطط لمغادرة كرسي رئيس التحرير في الخضراء اللندنية، وهو ما سيحدث بعد ثلاثة اشهر، ليتولى عبد الرحمن الراشد رئاسة التحرير، ومعه بقي بكر حتى نهاية ديسمبر 2003 ثم بصفة مستشار مع كل من محمد العوام، وبعده طارق الحميد، خلال سنة 2004 وحتى ما قبل عام، نهاية مارس 2005.

اسأل، "إلى أين كنت تريد أن تمضي؟"، يجيب بكر: "إلى الريف الإنكليزي حيث أبتاعُ كوخاً وأتفرغ لمراقبة الحياة وكتابة تجربتي". كانت الفكرة أن يودع أصدقاءه الذين عاش معهم في لندن أعواماً طوال، وينزوي بهدوء ليراقب الخريف وأوراق الأشجار المتساقطة، إلى أن يأتي الطارق الأخير في آخر ثواني العمر، ويمضي برفقته نحو الحياة الأخرى.

كل هذه المخططات أجلّها ناشر "إيلاف" ورئيس مؤسسة "ماروك سوار" عثمان العمير حينما دعاه مستشاراً له لتطوير الصحف التي يملكها. ها هو بكر يقترب من اكمال عامه الاول رفقة العديد من المشاريع التوسعية للطموحات العثمانية في المغرب، التي ستغزو الخليج قريبا بالطبعة الخليجية من صحيفة "لوماتان".

وصلنا مرّاكش. الطريق ما قبلها مدهش وجميل. جبال أطلس رؤوسها مليئة بالشيب، كون الثلج الأبيض لم يذب بعد. ننزل من القطار إلى حيث ينتظرنا السائق. نقطع الطريق إلى حيث منزل العمير. دقائق ويطلُّ علينا مستضيفنا ببدلة سوداء أنيقة. نتناول الغداء في المنصة المطلة على الحديقة الفاتنة، ومن ثم نغرق في حديث طويل حول المهنة وتغيراتها.

مراكش متحرّكة نهاراً بشكل لا يوصف، لكنها تأوي إلى فراشها باكراً، استثناء نزر يسير من ساهريها العتيدين. ساحة جامع الفنا المراكشية مليئة بالعجائب، وهي أكثر ما يجذب السواح الأجانب للمدينة. هناك ترى كيف تتراقص الأفاعي على موسيقى المزامير التي ينفخ فيها مرّاكشيون بقوة وصلابة. السواح الخليجيون لم يصلوا إلى مراكش بعد، ولا إلى المغرب ككل، ليسو هنا بكثافة تواجدهم في اوروبا ولبنان ومصر.

تحدد المصادر التاريخية بناء النواة الأولى لمراكش سنة 1070 م من قبل المرابطين، وهم مجموعة قبائل أمازيغية رحل أتت من الصحراء، وتطورت هذه المدينة تحت حكم السلطان يوسف بن تاشفين (1061 – 1107) إلى حد كبير من نتائج التوسع المرابطي في افريقية والأندلس لتصبح المركز السياسي والثقافي للغربي الإسلامي.

بعد استتباب الأمر للموحدين عقب دخولهم المدينة سنة 1147م، اتخذوها عاصمة لحكمهم لفترة موجزة قبل تحولهم الى الرباط، وأنجزوا بها عدة معالم تاريخية لازالت تشكل مفخرة عصرهم كصومعة الكتبية بمسجديها، الأسوار، الأبواب والحدائق إضافة إلى قنطرة على وادي تانسيفت ظلت تستعمل حتى عهد قريب. هكذا عرفت مراكش تحت حكم الموحدين إشعاعا كبيرا جعل منها مركزا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا لا نظير له في الغرب الإسلامي،كما تقول مراجع تاريخية.

وأمام ضعف الموحدين استولى المرينيون القادمون من الشرق سنة 1269م على المدينة غير أنهم اتخذوا فاس عاصمة لهم لقرب هذه الأخيرة من موطنهم الأصلي مما أدى إلى تراجع مدينة مراكش وتحولها لمركز ثانوي. في سنة 1551م استعادت المدينة مكانتها كعاصمة للسعديين ( 1589م –1659م). فعلى عهدهم تم تشييد بنايات ومنشآت جديدة أهمها قصر البديع ومجمع المواسين ومدرسة ابن يوسف وقبور السعديين وعدد من السقايات.

تحت حكم العلويين، قام المولى رشيد بترميم مسجد بن صالح المريني، غير أن خلفه المولى إسماعيل أولى كل اهتمامه بعاصمة حكمه الجديدة مكناس. وقد عمل السلطان سيدي محمد على إعادة مراكش إلى مكانتها وذلك من خلال إنشاء أحياء ومعالم جديدة. ويمكن القول أن مراكش اتحدت شكلها النهائي إبتداءا من فترة حكم هذا السلطان إذ اقتصرت المراحل القادمة على ترميم مل تم انجازه منذ العصر الوسيط.

ونظرا لما تزخر به من إرث حضاري كبير، أصبحت مدينة مراكش قبلة للسياحة العالمية ومقرا للمؤتمرات الدولية ذات المستوى الرفيع، لتحتل بذلك مكانة خاصة في المغرب الحديث.

أيام مراكشية مضت ورحيل مقبل إلى حيث الدار البيضاء، ومن ثم إلى الصخيرات بعدها. ذهب بكر معي لمراكش ولم يعد منها، بقي فيها. أنا ومؤسس "إيلاف" وناشرها، عثمان العمير، نمضي سويا في صباح ندي إلى حيث الرحلة الأخرى. لا الرحلة ابتدأت ولا الدربُ انتهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق