الأكثر زيارة

الجمعة، 22 يوليو 2011

صديقي المقاتل في أرض العراق وبين قضبانه !

لن أرى صديقي عبدالله علوش العتيبي مرة أخرى بعد أن حكمت عليه محكمة عراقية الإسبوع الماضي بالسجن مدى الحياة، وذلك بسبب الدخول غير المشروع إلى البلاد، ومحاولة القيام بأعمال إرهابية، كما قال البيان الصادرُ عن المحكمة.


إنه صديقي الحميم، واللصيقُ بي كالقدر منذ فترة ليست بالقصيرة.

أعرفُ عبدالله منذ سنوات عشر. كان القدر يرميه في طريقي كل لحظة، وعبر فترات متفرقة: فحيناً زميلاً في مدرسة، وحيناً زميلاً في جامعةٍ لم تشبع مقاعدها من جلوسنا عليها كلينا، وحيناً جاراً لا يبعد عن منزلي سوى ياردات قليلة، وفي أحايين كثر رفيقاً لي في ملاعب الإسفلت الخشنة تحت الشمس الاهبة، وشريكاً لا مفر منه في لعنات كرة القدم أيضاً التي كنّا نرتكبها في الأيام الخوالي.

 كل هذه الدلالات تشي بأنه كان يعيشُ حياةً طبيعية، بل أزيد أنه كان مكبّاً على الحياة بكل جمالياتها. حين كانت السماء تكتنز بالغيوم القطنية في الخريف، يقومُ عبدالله بتجهيز أمتعته، كأغلب السعوديين، ويشدُّ الرحال إلى الصحراء القريبة من المدينة، حيث تبدو الصفحة الصفراء من الرمال الصافية موشاة بعقود من الخضرة المتناثرة، وليتسنَّى له أيضاً أن ينشق أوكسجيناً حصرياً لرئيتيه، وأن يرنو بعينيه إلى سماء صافية، بعد أن انجلت غيومها، وكأنها وُلدت للتو.

كان يعيشُ شبابه بمختلف الطُرق التي تتوفر لشاب مثله، حتى وإن غدا بعض هذه الطرق بالنسبة إليه، حالياً، تُهماً لا يريدها أن تعلق بذاكرته. زماناً مظلماً لا يريدُ من أحد أن يضيئه بشمعة للذكرى. غير أنني لا أعتقد أنه وصل إلى هذه المرحلة. من الصعب أن يحاول خلع ذاكرته القديمة. من الصعب جداً أن نلغي حياةً سبق أن عشناها وعشقناها، بمجرد أن تتكدس شعيرات على صفحة وجهنا.

إنها أشياءٌ عالقة في أقبية أرواحنا لا تريم الانفكاك عنّا، حتى وإن حاولنا ذلك.

كانت الابتسامة لا تفارق وجهه في غالب الأوقات التي كنت ألتقيه فيها. وعلى الرغم من كونه سريع الغضب، فإنه لا يلبث أن يعودُ إلى طبيعته بعد دقائق من ثورته،ويعود ليحرك يديه كثيراً في الهواء وهو يسردُ أحداثه اليومية التي جعلت منه متوتراً، أو سعيداً في غالب الأحيان. كانَ صندوق حكايا وتجارب في مناحٍ شتى.

كما أنه طوال السنوات التي تصادفنا فيه للدراسة كان متفوقاً،ويتعاملُ مع المواد المدرسية بحرفية عاليّة، ماعدا الجامعة، التي تزامنت مع تحوله الأخير، بل أقول: تحولنا كلينا، وإن اختلف ما تحول كُلٌ منا إليه.

بعد افتراق بسيط تقاطعت فيه طرقنا إلتقيته. كان ذلك في منتصف نهار قائظ. إنه هو:بعينيه المتوقدتين، وقامته المتوسطة، ووجهه النديّ. بيد أن تغيّراً آخراً قد فاجأني. لقد نمت ذقنه حتى غدت تحتلُّ مساحة واسعة من قسمات وجهه. ولكنه مازال كما عهدته، متسلحاً بإبتسامته دائماً، وهي التي سلّتني من مفاجأتي، وجعلتني أتعامل مع الموقف بتلقائية، كأن شيئاً لم يكن.

كان لقاءً عابراً، وحديثاً ذا شجون. لم يختلف فيه شيءٌ، عدا عن ذقنه ذا الشعيرات الحريرية الطويلة. أمّا الأحاديث كانت ذاتها، كما كنّا نتداولها سابقاً، لم يطرأ تبدّل يُذكر على احاديثه، سوى بعض الكلمات التي يرددها الملتزمون دينياً أكثر منا. لكنه كان سعيداً بتحوله الجديد، رفقة صديق آخر لي، ضاع إسمه في دهاليز الذاكرة. كانت سعادته لا تتوقف، كما كنتُ سعيداً من أجل سعادته أيضاً.

السعادةُ أيضاً تسربت إلى البيوت المجاورة. الأمهات اللواتي يرتمين على سجاداتهن يؤدين الصلوات تباعاً، كن يتمنين أن يغدو أبنائهن مثله، وكذلك الجيران الذين يؤمون المسجد ذو الجدران البنية، كما أتذكر، بدوا سعداء وهم يصافحونه، وينظرون إليه معجبين. لم يتغير هو فحسب، بل قاد أسرته أيضاً إلى تحول جذري، فأصبحوا أكثر التزاما من ذي قبل. كانوا سعداء جداً، وكان الجميع سعيداً من أجل سعادتهم أيضاً.

لم تتغير الصداقة بيننا، بل ظلت كما هي، وإن كنت لم أعد أراه إلا لماماً، وفي أحايين متباعدة، إلى أن تشاء الظروف فنلتقي صدفة في ردهات جامعة الإمام محمد بن سعود، وهي أكثر الجامعات السعودية محافظة وراديكاليةً على الإطلاق.

وتشاء الظروف أيضاً أن نلتقي في نفس الكلية. كلية اللغة العربية،ومبناها ذو  النافورة الرخامية البيضاء، التي كانت تسقي الطيور دون كلل أو ملل، والتي كانت تمثل مشهداً ساحراً لكلينا. ساحرةٌ تلك اليمامة البيضاء التي تختالُ أمام مجرى النافورة دون أن تخشى أحدنا.

لا أتذكر كما مضى من وقتنا هناك، عام أو أقل، إلى أن اكتشفنا ذواتنا. كان يستبدُّ في داخلي فيروس المحابر والأوراق والكتابة. كان هو المحرّك الأول المبعد عن كراسي الجامعة، فآمنتُ به، وإلتجأت إليه، بينما كان صديقي يستبدُّ به فيروس آخر لا أعرفه، ولكنه أيضاً كان عازماً على التغيير، فغادر الكراسي ذاتها. لقد غادرنا سوياً، وإن كان في طريقين مختلفين. علمتُ بعدها أنه كان ينوي الدخول إلى الكلية البحرية.

وبعدها لم نلتقِ سوى لقاءات طفيفة، تعد على أصابع اليد الواحدة، إلى  أن لم أعد أره مطلقاً. كنتُ أعتقدُ أنه ذاهبٌ لمكان ما. كنتُ مؤمناً بحدسي. إلا أنني تفاجأت من القبض عليه في العراق. الحقيقة أنني لم أكن أعتقد في يومٍ من الأيام أنه سيكون هناك، وأن يكون مآله إلى أرض لم يعرفها من قبل. لكن هذا ما حدث. ما زالت سيارته، كلون العشب الذي يحبه، تتخذ موقفها أمام منزلهم. جميل أن يترك لك أحدهم شيئاً للذكرى.

أريدُ صديقي حياً!!.

 * بعد نشر هذه الرسالة (اكتوبر 2005) بأشهر نقل عبد الله إلى سجن آخر، ولكن في الرياض، وبعدها لا أعرف إن كان قد خرج أم لا يزال !

هناك 3 تعليقات:

  1. ألم أقل لك أن تاريخك تاريخ المفاجأت.....! هل لي من لحظة جميلة فيه..؟

    ردحذف
  2. إنني أنفض أوراقي هذه الأيام، والمفاجأت ستأتي تباعا

    ردحذف
  3. أما أنا فأريد اخي حياً ، كل مرة أود الكتابة عنه يدفعني البكاء بعيدا، ما رأيناه و ما سمعناه و الاخبار التي وصلت إلينا جميعها مربكة.كل ما تبقى لنا منه هو تصديق الأحلام التي يزورنا فيها نحدث بعض عنها نقول بأنه مسرور و احيانا بأنه حزين ونقول بأنه بدا في الحلم "زعلان علينا" فقط لنشعر بوجوده وبأنه لا زال يتخذ مواقف تجاهنا وان كانت سلبية ، نبحث عنه وفي نفس الوقت نتجاهل بعضنا عند الحديث عنه خشية الحنين من كل التفاصيل معه لأنها لا ترحم عندما تأتي.

    ردحذف