منذ اللحظة الأولى وجدت نفسي متعاطفاً مع الثورة التونسية دون تردد، أو مسائلة للنفس، على الرغم من "وهابيتي" التي يميزها الولاء المطلق لأولي الأمر - وهو أمر لا ينطبق على بن علي - ويطغى عليها التوجس المزمن من صانعي الثورات، وسارقيها في العالم العربي، وهو ما ينطبق على بن علي دون سواه في منطقتنا التي تحترف الرقص أكثر من التاريخ.
لماذا ؟
أولا: هذه أول ثورة أراها أمام عينيّ تتحرك من نفسها وبنفسها، دون توجيه أو قيادة، بل إنها ثمرة صالحة للقطاف يتمناها أي سياسي الآن. وثانياً: إنها ثورة الشارع الجائع المحبط ضد نظام غيّبه عن التاريخ لأكثر من ربع قرن، وثورة الإنسان الغاضب، الذي مر بنوافذ العمر المطفأة، فرأها تغلق واحدة تلو الأخرى دون سبب. وثالثاً: أن بن علي لم يحارب التوانسة فحسب، بل حارب المستقبل والحضارة والعالم.
أمام ثورة كهذه لا يمكن لك أن تتمتع بترف الحياد، ذلك أن عقلك وقلبك يسبقانك دوما إلى البعيد ... البعيد. هناك حيث ضفاف الضمائر المتصلة. إلى الإنسان الذي لم يتشوه بعد، وإلى الشارع الذي يستيقظ كي يوقظ التاريخ معه. صحوة الشارع مهمة لصحوة القصر. السلاطين متسلطون دوماً لولا الخشية من حركة الشارع، وفي حركة الشارع تذكرة وعبرة للخط الذي يجب على الحاكم والمحكوم أن يحاذرا من القفز عليه
لم أعش ثورة يوليو، ولا ثورة مصدق، ولا ثورة الفاتح. كلها ثورات دخلت من ثقب التاريخ، وصنعت لنفسها أماكن لا يزال النقاش حولها مفتوحاً. لكنني محظوظ أن أعتبر أنني من جيل ثورة تونس الجديدة. ليس انحيازا للثورة كثورة، بل انحيازا للإنسان كإنسان.
حالة "الترامح" بين بن علي وشعبه مستمرة منذ سنوات. علاقة كهذه لا يمكن أن تنتهي إلا بهذه الطريقة. في البلدان الخليجية يستطيع المواطنون مقابلة الحاكم، حين يشاؤون، للتعبير عن شكاواهم، ومظالمهم، وفي السعودية نفسها، التي يقيم فيها بن علي، يعتبر النقاش مع وزير الداخلية علنا ً في المؤتمرات الصحافية أمراً معتاداً، بينما في "تونس الراحلة"، التي كانت تعتقد أنها ظل الحضارة على الأرض، لم يكن أحد يجرؤ على الكلام، أو حتى النقاش، مع عقيد شرطة.
أحكم ديكتاتور تونس الصغير إغلاق النوافذ والأبواب والشبابيك، ونسي أن نوافذ العقل لا تغلق أبداً، وأن القضبان كلها لا تستطيع أن تحجب الأفكار عن الناس؛ وهكذا كان أهل تونس يهبون مع ثورة العلم والإعلام والعولمة كي يفتشوا عن تاريخهم من جديد.
باختصار: الكل تعب من بن علي. حاكم قرطاج كان يعيش في عالم خيالي من صنعه وصنع مستشاريه خلف أسوار القصور الأنيقة، بينما كانت الأرض تهتز، والشارع يغلي. لا أزال مؤمناً بأن الأنظمة الملكية أكثر رحمة بكثير من أنظمة العساكر، وجاءت "ثورة الياسمين" فأكدت لي الأمر، وازددت إيماناً بأن على أبن الملكية أن يفخر بكونه ملكياً، وأن الخيارات أمامه ليست متنوعة، في منطقة العرب، فإما رجل مثل أبن علي، وإما الفوضى !
بعد صدام وبن علي، يراهن ديكتاتوريو القاهرة، ودمشق، وصنعاء، وطرابلس، والخرطوم، على البقاء رغم العواصف، على اعتبار أنهم خبروا السهول كما خبروا الذرى، وتنقلوا بين العواصف ورياح الخماسين دون خسائر، لكن هيهات، لأن التاريخ لا يتوقف، والشارع لا يموت، حتى وإن عاش في غيبوبة طويلة، مثلما حدث في تونس !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق