الأكثر زيارة

الجمعة، 22 يوليو 2011

فلسطينيّو المخيمات: مطرودون من الأرض والسماء !


تعيشُ المخيمات الفلسطينيّة في لبنان أوضاعاً بالغة السوء بعد أن غدت أشبه بغيتوهات متلاصقة ومستقلّة إداريّاً تحت مسؤولية اللجان الشعبية الفلسطينيّة. وفي ظل كساد اقتصادي عارم وبطالة سافرة ومقنّعة ومنعهم من مزاولة الأعمال المهنية في عموم لبنان، يعيشُ فلسطينيو المخيمات عزلةً لا مثيل لها، وكأنهم قد غدوا مطرودين من السماء والأرض في آنٍ واحد كما عبّرت إحدى النساء المُسنّات في حديثها معي.


في الرمق الأخير من الصباح قررت أن أذهب إلى مخيّم شاتيلا. اعتمرت قبعتي ومعطفي لمكافحة برد بيروت الذي لا تُعرفُ توجهاته، وساقني الطريقُ إلى هناك بعد الهروب من خناق الطُرق المزدحمة. أزقةٌ  طينيّةٌ متلاصقةٌ في جوف أشبه برحمٍ مبقور، ومبانٍ مهترئة، وحوانيت متهاوية، وشوارع رثّة وضيقة، ومبانٍ عشوائية تساور ساكنيها شكوكٌ في أنها ستقع على رؤوسهم يوماً ما، هذه كلها تكوّن فسيفساء مخيّم شاتيلا.

ونتاجاً لهذا البؤس المتفاقم فإن سُكّانه يشعرون بأن بإمكانهم القيام بأي عملٍ كان لكي يستطيعوا إعالة أسرهم، حتى وإن كان ذلك عن الطريق السطو المسلح أو الابتزاز. على بعد خطوتين من المخيّم يقبع بيت مبني بالحجر والطين والإسمنت تقطنه عائلة من أصل سوري، غير أنها سكنت لبنان منذ أكثر من نصف قرن إلى أن تم  حصولهم على الجنسيّة اللبنانيّة. البيت يعود لعلي شويفاني الذي يبلغُ من العمر خمسين عاماً.

ويعيشُ علي هنا منذ نحو اثني عشر عاماً ولا يفصلُ بينه وبين المخيّم سوى أمتارٍ قليلة. يقول:"الأوضاع هناك سيئة وتعيسة جداً والحكومة لا تتدخل حتى أقرب الناس، وهي بلدية الغيرة لا تقوم بالخدمات بداخل المخيّم ولذلك فإن الوضع يصبح أكثر سوءاً من فترةٍ إلى أخرى". ويضيفُ منزعجاً:"خدمات الدولة تسوء منذ أن سكنت هنا لم أرَ شيئاً جيداً ولا يوجد فرص عمل لهم من الحكومة أو من الشعب نفسه".

ويقطنُ مع علي أفرادُ عائلته الذين يبلغُ عددهم سبعة. بعد أن فتح لي باب الدار الحديدي ودلفتُ إلى باحته، وجدتُ طاولة صغيرة وأربع كراسٍ تحلقت حولها. المنزلُ يبدو متواضع جداً. تدخلُ زوجته، التي تتعثر في نتوءات أرضية المنزل وفي سنين عمرها الخمسين، وهي ترتدي منديلاً أبيض مشوبا بالزهري، وتلفه حول وجهها الناصع بعناية. لم تصافحني بل اكتفت بإشارة على صدرها دلالة الاحترام، وأوقدت شعلةً لسيجارتها فيما هي تتحدث عن الأوضاع بالغة السوء في المخيّم.

وتقول :"هناك مشاكل وهناك أجواء ليست سليمة بالداخل (المخيّم) وعلى الجيش أن يتدخل فهو يخيف أكثر". يفسّر أحدهم المقصد بأن أغلب رجال الشرطة اللبنانيّة يتم تسييرهم بالمال وشراءهم بينما لا يستطيع أحدٌ إغراء أفراد الجيش الذي يتمتع بهيبة أكبر، ويستطيع فرض النظام بسهولةٍ مُطلقة، إذ أن الأمن في المخيّمات وما يقترب منها مختفي نهائياً ولا يتم حفظه كما ينبغي، في حين تتصاعد اتهامات للجان الشعبية الكفيلة بحفظ الأمن في المخيّمات بأنها تتستر على بعض المجرمين المطلوبين للعدالة.

ويعلّق علي بانفعال واضح وهو يحتسي شاياً من كأس زجاجي موضوع أمام طاولته البلاستيكية: "بالتأكيد لديهم مشاكل كبيرة.إنهم شعب من غير دولة. لابد من الحوار معهم بالحسنى دون نزاع. وكذلك لا بد من الحديث مع الفصائل الفلسطينية. نحن لا نريدُ أن نظلم الشعب الفلسطيني فهم يخافون من نزع السلاح لأن ذلك في نظرهم يعني نزع فكرة العودة إلى فلسطين. لقد تسلحوا بعد أن استطاع الإسرائيليون مهاجمتهم حتى وهم هنا في اعتداءات متكررة".

ويضيف بحديث تقطعه طفلته الصغرى ذات الجديلتين الشقراوين:"لابد من الحوار معهم بإخلاص وصدق دون كذب...وعود الحكومة لحل المشكلة هي تضييع وقت لا أكثر.لابد من تدخل حزب الله في المسألة لأنه موضع ثقة بين الطرفين.وخصوصاً تدخل السيد حسن نصر الله فهو من يملك الحل لهذه المشكلة المعقدة".

في هذا الوقت تدخل إحدى بناته من فُرجة بسيطة تُسمى تجاوزاً باباً.الشابة تحملُ طفلاً صغير تداعبه كأنها تعزف بشفتيها مقطوعة صغيرة وهي تهدهده بين ذراعيها.

تقول أمل :"الكل يريد أن يسافر حين تسنح له فرصة الهجرة خارج لبنان".

وتبلغ مساحة مخيم شاتيلا 39567 متراً مربعاً، ويقدّر عدد اللاجئين الفلسطينيين فيه بحوالي 12335 نسمة وفقاً لإحصائية الأونروا عام 2003. قسم من أراضي المخيم استُأجر لصالح وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا) لمدة 99 عاماً، وقسم آخر أراضي يملكها فلسطينيون. وتعود ملكية الأرض بالأصل إلى اللبناني عبد الله صعب من بلدة شويفات الذي كان مغترباً في البرازيل في ذلك الوقت.

 وكان وكيله في لبنان سعد الدين باشا شاتيلا، الذي سمّي المخيم نسبة إليه.ومخيم شاتيلا واحد من 15 مخيماً فلسطينياً أنشأتها الأونروا في لبنان لإيواء اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة عام 1948، ولم يبق منها اليوم إلا 12 مخيماً.‏

وتتناثر في مخيّم شاتيلا بضع حوانيت متراصة كأسنان مشط قاسمها المشترك خلو الزبائن منها،وهو ما يعكس حالة التردّي الاقتصادي التي يُعانيها المخيّم وسكّانه.قمة الإحباط والبؤس هما سمة المشتركة لقاطنيه حتى أن أغلبهم رفضوا الحديث لأنهم تعبوا من الكلام ولا مجيب لهم، سواءً أكان ذلك من اللجان الشعبيّة التي تتولى مسؤولية المخيم وتتهم بالفساد، أو من جانب الحكومة اللبنانيّة.

فوزي العمش الذي كان يحاذيني في المسير داخل المخيّم لا يقل عن الآخرين بؤساً وإحباطاً.

يقول:"إننا نعيش هنا أوضاعاً سيئة جداً.أريد العودة (إلى فلسطين) بإمكاني أن أقوم هناك بعملية انتحارية" .يقولها وأحدّق في عينيه بينما يظلُّ مصرّا على حديثه.

العمش يعملُ في نسخ أفلام الدي.في.دي بعد أن غادر عمله الأول في شركة للديكور التي قذف فيها خمس سنوات من عمره وتبخّرت على حين غرّة دون تعويض أو ضمان اجتماعي.

يعتدل في كرسيّه البلاستيكي في ركن من مقهىً صغير  لبيع النارجيلة والشاي ويكمل حديثه:"أوضاعنا هنا تعيسةٌ جداً جداً جداً".

وتعملُ معه عجوزٌ في الخمسينات من عمرها. العجوز المليئة بالتجاعيد تربطُ منديلاً بالياً حول رأسها الأشيب وتجاهد في تنظيف ما يعلق في أطراف ملابسها الرثّة. لا تغادر عينيها مسحة الحزن بسبب البؤس الذي تعيشُ فيه، حتى تهاوت على كرسي حزنها واشتعلت دمعاً في المكان. 

حاولنا تهدئتها  لكنها غادرت وهي تقول الجملة التي وضعتها في سقف الموضوع:"نحنا (نحن) الفلسطينيّة مطرودين من الأرض والسماء". وحين تعود تحضر طفلاً لأحد أبنائها وتقول أنها استدانت أمس لكي تقوم بإطعامه.

وعن أحلام العودة إلى فلسطين إن كانت تراودها تقول:"العودة إلى فلسطين مستحيلة".

ويقع مخيم شاتيلا جنوبي مدينة بيروت، ويتبع إدارياً لمحافظة جبل لبنان وبلدياً لبلدية الغبيري. أنشأته اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 1949، لإيواء مئات اللاجئين الفلسطينيين الذين توافدوا على المنطقة من الجليل الأعلى شمال فلسطين عام 1948. تضرر المخيم كثيراً بفعل الأحداث اللبنانية والاعتداءات الإسرائيلية المتلاحقة في السبعينات. ودمرت معظم مبانيه.

 خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ارتكب الاحتلال والميليشيات المتعاونة معه في 17 أيلول/سبتمبر من العام نفسه مجزرة سقط فيها ما يقارب من 2500 شهيد حسب بعض التقديرات الذي بثّها موقع الكتروني مختص.

وتنعدم الرعاية الصحيّة في المخيّم حتى في ظل وجود عيادات خاصّة. يقول عنها علي حسين ساخراً :"المريض حينما يأتي إلى أحدها ربما يزداد مرضه أكثر".

وفي حين تنعدم روحه المرحة أثناء إيابي للخروج من المخيّم يقول بحزن واضح وهو يرتدي هاتفه المحمول كقلادة حول عنقه:"ليتني أستطيع الحياة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق