الاثنين، 17 مارس 2014

العالم يتغير... الردّة إلى القرن التاسع عشر!

في مقهاي المفضل، هنا في "لندن بريدج"، حيث نقطة التماس ما بين عظمة إنجلترا المهووسة بالتاريخ، وبين محطة القطار التي يمكن أن تنقلك في دقائق، إلى الحي المالي، وتلك البنايات الزجاجية التي تبين روح القرن الجديد، كنت أفكر في الكتابة عن العالم كما نراه، والتغير الذي طرأ عليه بعد سنوات الحرب الباردة. أوحى لي هذا المكان، على ضفة حضارتين، أن العالم

يتغير بسرعة مذهلة، ضمن حدود تفرضها قابلية القيادات والشعوب لأي نوع من التغيير. حركة التغيير تحدث في العالم، دون أن يتناسى التاريخ تلك التناقضات الإنسانية، بين دول، أو مجتمعات، أو حتى حضارات مختلفة.

هذا ما كنت أحاول أن أكتب عنه، بينما كنت أتابع بتفكير عميق، شاشة الأخبار المثبتة على حائط المقهى وهي تنقل آخر تطورات الوضع في أوكرانيا.


كانت فكرتي من وحي المكان، أن العالم يتغير، ويمر بأطوار متعددة، مدفوعاً بالتغيّر في مدارس الفكر السياسي، وحركة المجتمعات الإنسانية. مر في خيالاتي شريط طويل من الذكريات المختلفة عن العالم المتحرك. تنقّل العالم خلال القرنين الأخيرين بين عدة محطات متضاربة، حتى وصل إلى ما يبدو وأنه آخر محطاته: الليبرالية الغربية، وحقبة جديدة أسمها العولمة، التي تجعل من النادلة الروسية لهذا المقهى، توصيك بأكلة السمك والبطاطس، الأكلة الشعبية الإنجليزية، أو أن يشغلك حدث أوكرانيا، وأنت هنا في قلب العالم الغربي، وكأنه قضية بريطانيا كلها اليوم!

لم يعد للعالم حدود الآن، فقد دخل اتحت ظل قبة جديدة اسمها العولمة، بعد سنوات من الحرب الباردة التي قسّمت العالم إلى معسكرين، وحددت العلاقات بين الدول في إطاريّ العداء أو المناصرة. حبس هذان الإطاران العالم لعقود طويلة حتى جاءت العولمة لترسم خطوط عالم جديد لا يؤمن إلا بالعلم والمنافسة. اختفت النظريات التي تقول بأن سعادتنا تبنى على تعاسة الآخرين، وتحولت إلى أن سعادتنا تبنى على الشراكة مع الآخرين. في هذا العالم الجديد نحن شركاء. لا توجد فكرة ينفذها شخص واحد، بل مجموعة من الشركاء، تبلغ المسافات بينها الآلاف من الكيلو مترات.

لا مكان للحقد في هذا العالم، لأن الحقد لا يصنع شعوباً ناهضة، ولا يبني دولة قادرة على التفاعل مع مجريات الحداثة في العالم الذي يتغير في كل لحظة. نعم كانت هذه أفكاري، من وحي هذا المقهى اللندني العتيق، لكن هنالك شخص واحد يحاول أن يعيدني رغماً عنّي إلى حقبة أخرى، رغم أنه يبعد عني آلاف الأميال، واسمه: فلاديمير بوتين!

لعل الوصف الأبرز هو ما قاله جون كيري، أن بوتين يريد أن يعيدنا إلى القرن التاسع عشر. كان هذا مثالا دامغاً على أن العالم مهما بلغت قوة تفاعله الحضاري، إلا أن التناقضات الاجتماعية، والسياسية، تعبر عن نفسها مرة إثر أخرى، مهما حجبها الوقت.

بقراءة سريعة لتاريخ روسيا يبدو بوتين وكأنه الأكثر ليبرالية خلال القرون الأربعة الأخيرة من أي حاكم روسي آخر، إذا أستثنينا المصلح المتعجّل جورباتشوف. مع ذلك، ولحظة شعوره بالخطر الغربي، ظناً منه أنها محاولة تطويقه، تحول بوتين إلى مقاتل من القرن التاسع عشر، متناسياً كل الأفكار التي جعلت من روسيا قوة متحضرة بمقاييس القرن الحديث.

يمكن أن نقول إن العولمة لم تستطع أن تنهي الصراعات البينية، وترسبات عقود من التذابح الدولي، بل حجبتها، وحاولت حصارها مؤقتاً. لكن أشخاصاً مثل بوتين، وجماعة الإخوان، ودعاة الفكر القومي، يحاصرون هذه الفكرة الخلاّقة التي تجعل من العالم شريكاً كامل الشراكة في نفسه.

هذا القرن هو قرن العودة إلى الوراء. حتى في ظل الربيع العربي، كان لافتا كيف أن الاستعمار القديم استيقظ ليتحسس مواقع نفوذه القديمة: طائرات حلف الناتو تطير من إيطاليا لتقصف معمر، فرنسا تهتم بما يحدث في الجزائر ولبنان وسوريا، مصر تحت طائلة اهتمام أميركي بريطاني ثم روسيا تزاحم بمنكبيها الكل في كل مكان.   

لذلك أقول إن العامين الأخيرين هما عاما الردة إلى القرن التاسع عشر، والمسؤول ليس بوتين وحده!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق