الخميس، 15 سبتمبر 2011

من هو السعودي الذي كرّمه "أوغلو" وأعجب به "أربكان"؟

في العاشر من شهر مايو 2002 حمّل نجم الدين أربكان، وهو  وقتها نمر تركيا المحاصر، مسؤولاً سعودياً رفيعاً رسالة طلب إيصالها على عجل إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي كان يشغل منصب ولي العهد ورئيس للحرس الوطني، ولم يعرف ما اذا كانت تلك الرسالة قد وصلت أم ظلت طريقها في ضباب الأدراج والملفات.
لم تكن الرسالة، التي وصلت إليّ نسخة منها عبر جنود من ورق، تتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين، بقدر ما كانت طلباً مقدماً من فعاليات تركية لإبقاء دبلوماسي شاب في السفارة السعودية في أنقرة، أسمه عبد الله الشمري، كونه قام بمجهودات لافتة لتنمية العلاقات بين البلدين.
وبالنسبة لأربكان فقد كان الأفضل "الإبقاء"، أما المفضل فقد كان التعيين في "موقع أفضل"!
قال أربكان في الرسالة التي لم يسمح لي بنشرها كاملة، ولوحظ أنه وقعها مستخدماً لقب بروفيسور بدلا من استخدام أي من القابه السياسية الأخرى:" سيكون من المفيد تعيينه في وظيفة أكثر فاعلية في سفارتكم في أنقرة. نرجو من سموكم الحرص على ذلك لخدمة مصلحة الشعبين الشقيقين وأطلب من سموكم الاهتمام الخاص بما ذكرته".
وبعد ثمانية أعوام من تلك الرسالة الطائرة في مهب البيروقراطية السعودية التي تشتهر بها وزارة الخارجية، يأتي وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو ليطلب من سفارته في الرياض تكريم هذا الدبلوماسي الشاب، الذي أشغل تركيا بإسلامييها وعلمانييها، بينما لا تتحرك بلاده إلا على خفقات الأودية المجاورة، وبعد حين.
يقول الشمري عن ذلك التكريم في حديث معي ونحن نتحدث عن مسيرته المهنية والوسام التركي كان أهم محطاتها، بينما رائحة الحبق الحائلي (نسبة إلى حائل شمال السعودية) تتسلل إلى أنفي من كوب الشاي الموضوع على المائدة :" لا تتصور ماذا يعني لي التكريم من شخص بمقام وعقلية ورؤية البروفسور / احمد داوود اوغلوا – والذي اعتبره من ابرز وزراء خارجية العالم ومن أهم وزراء الخارجية تركيا عبر تاريخها إن لم يكن أهمهم على الإطلاق ".
ويضيف قائلاً: "إن مشهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في صباح مشمس من أيام أغسطس 2006 وهو يستعرض حرس الشرف في قصر تشانكيا في أحد مرتفعات انقرة كان مشهدا خالدا في ذهني لا ينسي واثبت حقيقة الرجوع السعودي والعربي لتركيا والعكس وكانت الرسالة للآخرين واضحة ( إن الفهم الواضح للتحديات التي تحيط بالبلدين توحد وتصلب الإرادة وتذلل أي عقبات تحول دون العلاقات الاستراتيجية ) ".
في خطاب التكريم قال أوغلو، الذي لم يحضر لأسباب عملية وألقى الكلمة نيابة عنه سفير تركيا، خلال حفل بهيج: "أود أن أشكر لسعادتكم جهودكم المخلصة ومساهمتكم التي لا تقدر بثمن، وأنا شخصياً ووزارة الخارجية التركية نتابع ونقدر عملكم على تحقيق هذه الغاية".
وأضاف بعبارات استرعت أنتباه الحضور عن دور هذا الرجل، أمام حشد من كافة الأطياف السعودية: "لقد كنت شخصياً واحداً من أقرب الشهود على الأهمية التي توليها الحكومة التركية لمواصلة تطوير علاقاتها مع المملكة".
أما السفير التركي السابق في السعودية ووكيل وزارة الخارجية التركي ناجي كورو فقال في محاضرة له إن "عبدالله هو السفير الثاني  لتركيا في المملكة ... انه وهابي أنقرة وأتاتورك الرياض" .
إلا أن ذلك لم يكن يشغل باله بقدر ما يشغله المستقبل.
وفي دارته الهادئة، شمال الرياض، حيث يكثر الزائرون الكبار، يمكن ملاحظة الشغف التركي من خلال الكتب التي تتحدث عن تركيا وتاريخها من آل عثمان حتى أتاتورك، وتلال أوراق المحاضرات التي ألقاها عن تركيا وعلاقتها مع العالم الإسلامي والشرق الأوسط تحديداً.
أيضاً هنالك صور لمحطات مختلفة في حياة هذا الدبلوماسي المعروف بحركته الدؤوبة في الشوارع الضيقة. هذه صورة مع العاهل السعودي خلال إحدى الاستقبالات الرسمية، وهنا صورة مع أمير منطقة الرياض سلمان بن عبد العزيز في مكتبه، و صورة أخرى مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، والعديد من الصور الأخرى عن الأيام الخوالي في أستنبول وأنقرة.
ومنذ سنوات وهو يطرق الأبواب والنوافذ في بلاده مشددا على أهمية تركيا.
وحين قلت له ملاحظاً هذا النشاط الزائد عن الحد في الترويج للحلم التركي، وقد كنت ولا أزال أراه حلماً انتهازياً لا مكان له في المستقبل: "أذلك شغف المحب أم شغف الباحث؟".
قال لي: "كلاهما معا... لكن المسألة ليست مسألة حب أو كره المسألة مسألة فهم للأتراك وتركيا. أنها قصة العربي العائد لتركيا بعد قطيعه عقود وكما يقول الشاعر الخالد كامل الشناوي: فتركــتها لـكــن قــلبي لـم يـزل، طفــلا يعـاوده الحـنين إلى الرجــوع. إنها العودة للميس ونور ربما".
وأعود إليه مرة أخرى بسؤال يخلو من البراءة :"هل أنت وهابي أنقرة، أم أتاتورك الرياض؟"
ويجيبني وهو يغالب ضحكاته المجلجلة، ومن ثم يعتدل في مقعده الخشبي:" ربما كلاهما ولكن بالجانب الإيجابي فأنا في تركيا أحاول إن أصحح الفكرة الخاطئة لدى البعض عن ما يسمى بالوهابية، وخلال العمل والدراسة والتي امتدت لسنوات في تركيا كونت حصيلة علاقات مع كبار الشخصيات هناك، وكنت أسعي من خلالها حثيثا أن اشرح للأتراك العوامل التي تقربنا من بعضنا البعض دون الانغماس في هوس الإحداث التاريخية".
ويقول أنه يحلم بإصدار كتابه الذي يحمل عنوان: "وهابي في أنقرة".
ويضيف بسعادة: "هذا مجرد حلم وربما يتحقق واكتب المذكرات التي ستحكى قصة دبلوماسي سعودي يعيش هناك (غريب الوجه واليد واللسان) وفي مرحلة العلاقات الصعبة، يعاني ويدرس ويتعلم اللغة ويتعرض لبعض المضايقات العنصرية وبعض المواقف الإنسانية الجميلة ويسجل من خلالها النظرة التركية للعرب والسعودية قبل وأثناء وبعد إحداث 11 من سبتمبر".
نتوقف لحظات لنملأ كأسينا من الشاي اللذيذ فيما يطل أبنه "تركي".
ولمعت في ذهني :"لماذا تركي يا عاشق تركيا؟"، فيقول لي بابتسامة وهو ينظر إليه: " لحسن الحظ فهو من مواليد تركيا وقد أسميته (تركي) لان لهذا الاسم وقع خاص في نفوس الأتراك والذين يحملون شعورا وفخرا عظيما لبلدهم وكانوا هناك يطلقون على (تورك باباسي ) أي أبو تركي وهذه مصادفة سعيدة".
وتحدثنا كثيراً كثيراً عن المستقبل والصورة المغلوطة أو المعكوسة لتركيا، لكنني لم أشأ أن ينتهي الحديث دون المرور عن شاعر تركيا الأكبر ناظم حكمت.
يقول لي أنه شاعر ملهم.  
 ويشير إلى أن قصته "تمثل مرحلة تاريخية مؤلمة من التاريخ التركي وليس سراً تأثر شعراء عرب عظام كعبدالوهاب البياتي، وبولند الحيدري، ونزار قباني بشعره، وما يؤلم إن القطيعة العربية التركية سابقا أثرت على حجم ونوع التبادل الثقافي بين العرب وتركيا".
وكان حكمت خير ختام لحديث أمتد ساعات عن الماضي والمستقبل.
وخرجت وانا أتذكر ناظم حكمت، ذلك الشاعر الذي كان بحق مجموعة بشرية لا حدود لطاقتها، تصارع في داخلها الفنان، مع الصوفي، مع الإقطاعي، مع الماركسي، مع الثائر في وجه الأتاتوركية حتى الرمق الأخير.
وعلى عتبات السلّم البيضاء، وقد أحصيتها ثلاثاً، طافت بي صدى كلماته القديمة، وأنا أستطلع الرياض الهادئة، وقد بدت اكثر فتنة، وحيوية، وفوراناً:
" أجمل البحار ذاك الذي لم نذهب إليه بعد،
وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد،
وأجمل أيامنا التي لم نعشها بعد،
وأجمل ما أريد قوله لم أقله بعد!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق