الأربعاء، 20 يوليو 2011

النهار... الصحيفةُ اللبنانيةُ التي تشهقُ في كُلِّ لحظة !

لفرط ماهي عليه من نشاط محموم تشعرُ أن صحيفة النهار اللبنانية تشهقُ في كل لحظة، حين تلقّيها كل ماتفضي به أوردتها التحريريّة: صحافيّوها وبريدُها وفاكسُها، وتبدو وكأنها شابةٌ ترفل في عامها الأول بعد السبعين، وقت أن تتهيأ للعمل في صباحات نوفمبر الباردة، وهو الوقت الذي تيّسر لي فيه متابعتها عن كثبْ.


في الطابق السادس من مبنى صحيفة النهار تتناثر بضعة مكاتب في فضاء صالة تحرير مفتوحة. الصالةُ منهمكةٌ في لونين إثنين:الأزرق والأبيض، فيما تتناثر على ضفافها مكاتبُ زجاجيّةٌ مخصصةٌ لرؤساء الأقسام، وهم صحافيون قلقون يمضون جلّ وقتهم في الطرق بأصابعهم على لوحة المفاتيح بسرعة لافتة، لتفريغ الأوردة الإلكترونية من المواد الصحافية وتجهيزها للنشر.

يدخلُ رئيس تحريرها الثمانيني غسّان تويني ببذلته الرمادية الأنيقة، وقميصه الأزرق، مرتدياً قلادة تحملُ بطاقةً تعريفيةً له، ويخطو بخطواتٍ متثاقلة عبر المساحة الواسعة من صالة التحرير. يسئل محرريه عمّا تحيكه أصابعهم النحيلة من مواد. يعلٌّق،أو يقذفُ إبتسامةً خفيضة،أو يمرر يديه على صفحات الوجوه الشابة التي تمتلئُ بها صالة التحرير، ويمضي إلى مكتبه الذي تضمّه إحدى ضفاف الطابق السادس، حيث ينهمكُ هناك فريقٌ تلفزيوني في إعداد المكان لإجراء مقابلة تلفزيونية معه.

 وهو الوقت ذاته الذي التقيته فيه لقاءً ترحيبياً خاطفاً ليتسنّى له الوصول سريعا لإنجاز المقابلة ذاتها التي ينتظره أصحابها في مكتبه. تويني لم يترك صحافياً في الطابق بأكمله إلا وسأله عمّا لديه، عبر مرتين متتاليتين، ويختم ذلك بأن يربت على أكتافهم، ويسيرُ بوجه ينضحُ حيويةً وتفاؤلاً، كما سبق وأن حدثني عنه ناشر إيلاف عثمان العمير.

بين هنيهةٍ وأُخرى يصلُ رجلٌ خمسيني تآكل شعره بفعل السنون وهو يحملُ بين يديه رُزماً من الأوراق ليسلمها إلى "جوزيف خليل" الذي يتولّى محليّات النهار، والذي هو أيضاً يعتبر شرياناً لاينفكُّ عن تغذية قسم الإخراج بالمواد الجاهزة إستعداداً لنشرها في وجبة الغد. يجلسُ جوزيف مُطرقاً على مكتبه ببذلته العشبية ونظارته المثبتة بإطار ذهبي وقلمه الأزرق حيثُ يقومُ بتصحيح المواد، وإصلاح أحوالها وعنواينها، ليتم بعد ذلك ضخّها إلى المرحلة التالية من العمل.

يقول وعيناه لاتتوقفان عن المتابعة:"تأتينا كل ُّ المواد المختصة بالشأن المحليّ هنا ومن ثمَّ نقومُ بتوزيعها على الأقسام الأخرى.. في الثامنة أبدأ في رسم صفحاتي النهائية لعدد الغد مع المخرج المختص". وينهضُ بعد ذلك متجولاً في أوصال صحيفته ليتابع أيَّ موادٍ تبقّت، وأي موادٍ سيكون بوسعها تجهيزها للإخراج.

ولايزال جوزيف  يتابعُ  الأوراق التي تستلقي على طاولته. أمامه شاشة كومبيوتر تعمل على الدوام، في رحمها مواد صحافية تصل من محررين عبر شبكة النشر الداخلية، أو تلك التي تأتي بها الوكالة الوطنية للإعلام، وهي الوكالةُ المحليـّة التي تبثُّ أخبار لبنان. ويقول:"نحنُ نتولى كّل شيء يختصُّ بالمحليّات..ماعدا الشؤون الدولية يتولاها سميح صعب". يشيرُ بأنامله إلى مكتب زجاجيٍ في الأمام.

سميح صعب يقبعُ في مكتبه الزجاجي ليتسنّى له تجهيز الصفحات الدوليّة في صحيفة النهار. يخرجُ ثوانٍ ليلتقف اوراقاً قذقت بها الطابعةُ من جوفها. تتصادف عيناه مع غسّان تويني الذي يداعبه، فيجيبه سميح بإبتسامة ليعود مرةً أخرى إلى مكتبه، ويقضي وقته في التجوّل داخل شاشة الكومبيوتر مجهزاً في جعبته عدد الغد، والتي يتولّى فيها مسؤولية صفحتين كاملتين، عدا عن الصفحة الأولى والتتمات.

وطئت أقدام سميح النهار منذ نحو 13 عاماً حين كانت الصحيفةُ تولدُ من رحم حي "الحمراء" أشهرُ أحياء بيروت، ولذلك فإن مللاً غير مُعلن يساوره بعد ذلك الوقت الطويل من العمل في مؤسسة صحافية واحدة، وهو يجلسُ في مكتبه الذي يُعدُّ مصبّ الأخبار الدولية في النهار. أقول له:"أليست الصفحات الدولية قليلة؟".يقول وهو ينتقلُ بعينيه من الكومبيوتر إلي:"النهار تعتبرُ صحيفةً محليّة وليست عربية لذلك لايكون هناك كمية كبيرة من الأخبار الدوليّة".

صورةُ سمير قصير عُلقت على أغلب مكاتب صحافيي النهار. كان موجوداً في الصورة بذقنه النامي بعناية مُسبقة، والذي تتخله بضع شعيرات بيضاء، وابتسامته تلك التي لم تتغيّر أبداً. مازال مبتسماً رغم أنه قضى نحبه في إنفجار غامض طال سيارته في العاصمة اللبنانيّة بيروت، وخلفّت هذه الحادثة جلبةً عالميّة لم يسبق لها مثيل.

في هذه اللحظة من الهزيع الأخير للمساء يدخل رئيس التحرير التنفيذي للنهار ادموند صعب إلى صالة التحرير، بعد ان عطل وصوله زحام السيارات الذي يخنق بيروت، والذي طوّق عنقها أكثر فأكثر وقت الماراثون الذي نظمته على امتداد شوارعها. ادموند قصير القامة نوعاً ما، يرتدي قميصاً أزرقاً فاتحاً. يتجوّل بسرعة، ليتجّه إلى ركنٍ أخير حيثُ يلقي التعليمات والتوجيهات ويمضي إلى مكتبه.

وتمتلئُ الردهات بالأحاديث والتكهنات.هناك حديثٌ عن صحف جديدة ستصدر، إحداهما للعماد ميشال عون،وثانية لإلياس المر. ولكن عدم الإستقرار السياسي يبدو عائقاً أمام مشاريع جديدة يحتضنها لبنان. يعلّق سميح صعب:"بالطبع فإن الإشكالية تكمنُ في عدم الإستقرار.ليس في لبنان فحسب بل في كل دول المنطقة العربيّة".

غير أنّ مايميّز النهار، كأي صحيفة أخرى، هو صفحتها الأولى الزاهية بصورة ديك يصرخُ لفجر جديد، والتي تمتلئُ بعناوين رئيسيّة  ينحتها  منذ أكثر من اثني عشر عاماً رئيس القسم السياسي  في الصحيفة نبيل بو منصف. يقول عن ذلك بزهو:" أنا مهووسٌ بالمانشيتات..إنني أعشقُ ذلك، وأقوم بالسهر عليه حتى غدوت أنا والسهر صديقان". ويغيبُ عن كتابة العناوين الرئيسية للصفحة الأولى يومين في الإسبوع فقط، ولكن "القارئ يلاحظ الفرق بالتأكيد" على حد تعبيره.

حين وطأ بو منصف العتبات الأولى لدراسته الجامعيّة انصوى تحت لواء صاحبة الجلالة، التي آمن بها على الرغم من أنه درس المحاماة وحصل على شهادة فيها. يُعلّق على ذلك بسعادة خفيّة على القدر الذي جاء به إلى الصحافة :"تورطتُ في الصحافة فكرهت المحاماة.أحبُّ العلم ولكنني اخافه..إنني أعشقُ الصحافة أكثر".

ويستغرب كيف نجا من الموت من الفترة التي أعقبت عام 1977، والتي كانت آنئذ فترة تحولات وخضّات تحتضنها الساحةُ اللبنانية، وتلقي بظلالها على كافة أوصال الحياة التي انعدم فيه الإستقرار، ووصل إلى حدوده السفلى.

إلا أنه لايازال يشعرُ بحنينٍ غامض إزاء ذلك المبنى القديم للصحيفة الذي كان يقبعُ في حي الحمراء شارع بيروت: "نعم رأيت المبنى الحديث ولكنني لم أستطع التأقلم هنا. إنني أحب الحمراء أكثر حيث عشتُ هناك سنوات طوال". ومازالت المطابع في الحمراء هناك حيث تستقبل الصحيفة عبر نظام الكتروني لتقوم بطباعتها، ليستقبلها القراء صبيحة اليوم التالي طازجة إلى أعينهم.
 *من مفكرة 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق