عندما فكر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز في إجراء تغييرات الرابع عشر من فبراير الشهيرة لاح في ذهن مستشاريه أسم رجل الدين المعروف الشيخ سعد بن ناصر الشثري كي يكون على رأس قائمة "فريق الملك" الجديد الذي سوف يدخل إلى مجلس الدين الأهم في البلاد بغية عصرنته وتجديد دماءه.
وبالفعل مضى الشثري على طريقة طارق بن زياد ففتحت له بوابة "هيئة كبار العلماء" التي تعتبر أهم مرجعية دينية في الدولة، من أوسع أبوبها، فضلاً عن أبواب الديوان الملكي، وأبواب بقية أعضاء "فريق الملك" الذين كان لهم الأثر الأكبر في تجديد شباب الحياة السياسية في البلاد وبعثها من جديد.
كان الهدف الملكي من تعيينه برفقة آخرين واضحاً : توسيع هذا الجهاز، الذي له ثقله ووزنه في بلد يحكم بالشريعة الإسلامية، وجعله منفتحا على كافة الأطياف الدينية في البلاد وخصوصاً المذاهب الأربعة المعترف بها لدى أهل السنة، ووضع حد للتطرف أو دعوى أن يكون له مرجعية سياسية أو دينية من قبل مؤسسات الدولة.
غير أن كل هذه الآمال التي وضعت في الشثري ذهبت أدراج الرياح بعد مهاجمته جامعة "كاوست" بدعوى الاختلاط المتوقع حيث كان من الغريب أن يضع رجل من السلطة عصا في دواليب عجلات السلطة نفسها. ويبدو أن الشيخ المعروف بدماثة أخلاقه قد أختار أن يكون أول رجال الدين الذين يلتقطون السهام بصدورهم فيما لا يزال البقية قابعين في ملاجئهم الآمنة.
وفي خطوة نادرة من حيث توقيتها وسرعتها وصيغتها أعفى الملك في مرسوم ملكي الشيخ سعد الشثري من مهام عمله كعضو في هيئة كبار العلماء والعضو المتفرغ في اللجنة الدائمة للبحوث والفتوى المتفرعة من الهيئة. وكان لافتاً أن الأمر الملكي لم يشتمل على جملة "بناء على طلبه" التي يكون الهدف منها عادة الحفاظ على سمعة ونفسية المسئول المقال كما جرت عليه العادة.
ولم تعط الوكالة أي أسباب للإعفاء ولكن القرار جاء بعد أن قال الشيخ الشثري انه ينبغي على العلماء مراجعة المنهج الدراسي في جامعة الملك عبد الله الجديدة للعلوم والتكنولوجيا لمنع الإيديولوجيات الغريبة مثل نظرية " النشوء والارتقاء" إضافة إلى انه اعترض على التعليم المختلط في الجامعة.
وبعد هذا التصريح الذي جاء في إحدى برامج قناة "المجد" رداً على سؤال سائل من قطر، دُرست فكرة إقالته على أعلى المستويات في الدولة لأن ما حدث سابقة في حد ذاتها لم يعتد عليها النظام السعودي المحافظ.
وبينما اعترض رجال دين كثر على هذه الجامعة إلا أن ذلك لم يشكل فرقاً بالنسبة لصناع القرار اللهم في حالة الشثري نظراً لأنه من "آل البيت السياسي"، كما يمكن أن يقال، فهو ابن لرجل مقرب من الدولة وقريب من رجال حكمها الكبار، فضلاً عن أنه معين بتوجيه من الملك ناهيك عن أنه موظف رسمي في الدولة.
واستناداً على أمر ملكي صدر في أواخر عهد الملك فهد فإن موظفي الدولة ممنوعون من الاختلاف مع سياستها طالما رضوا بالعمل في أجهزتها وهم ممنوعون كذلك من التوقيع على البيانات أو العرائض السياسية التي كانت في السنوات الماضية إحدى وسائل الوجاهة الاجتماعية والفكرية.
وبناءً على كل ما سبق فقد كانت الأرضية القانونية مهيأة لإصدار قرار إقالته حتى تكون الرسالة واضحة إلى الجميع بعد أن وضعت هيبة الدولة على المحك.
وفي الوقت الذي كانت فيه فكرة الإقالة قد اعتمدت رسمياً كخيار أخير لمحاسبة الشيخ الذي حاول التراجع عن فتواه، كان الشثري يفكر أيضاً في تقديم الاستقالة حسب معلومات خاصة.
وبعد أن حسم أمره ذهب إلى المفتي ودار بينهما حوار شكسبيري يعتبر قمة في التراجيديا حسب ما وصل من معلومات عن ذلك اللقاء. قال الشثري بنبرات صوته الهادئة التي طالما سحرت تلامذته الكثر إنه قرر "تقديم استقالته وقد صلى صلاة الاستخارة وهو ماض في قراره لن يتزحزح عنه"؛ فرد عليه المفتي مشيراً عليه بأن "يتريث" وان "الاستقالة غير مقبولة".
وعندما قال أنه "تسبب في ضياع هيبة هيئة كبار العلماء" بعد أن تطاول عليها عشرات الكتاب في حملة قصف لا مثيل لها فقال المفتي "انه سيقف معه وان الأمور لن تتطور". وبعد حديث مؤثر امتد نحو الساعة خرج الشيخ من المقابلة بمشاعر متضاربة بين المضي في قراره أو الانتظار.
ونظراً لأن الشثري لم يكن من ذوي الجلود الخشنة كاللحيدان والدويش والغيث والعواجي وغيرهم من رجال الدين الذين خاضوا معارك شرسة مع الصحافة المسيطر عليها من قبل التيار الليبرالي، فإن حدة المقالات التي هاجمته والتي لم يعتد عليها كانت واحدة من الأسباب التي جعلته يحسم أمره في الرحيل.
وحين ذهب إلى الديوان الملكي الذي سبق وأن دخله على طريقة طارق بن زياد فاتحاً ومنتصراً ومحبوباً وجد أن المباني هي نفسها لم تتغير، لكن الأبواب تغيرت لتغدو أكثر صعوبة عند الفتح أكثر سهولة عند الإغلاق، وأصبحت مقابلة أصغر الموظفين أصعب من كبارهم، فطلب توصيل رسالة الاستقالة إلى الملك لكنها كانت متأخرة؛ فقد أقيل الرجل وأصبح من الذكرى.
وفي التاسعة والنصف مساء وهو موعد نشرة الأخبار الرسمية في المملكة سمع مئات الآلاف من السعوديين قرار عزله من منصبه بعد أن أصيب مذيع النشرة بنوبة سعال مفاجئة وهو يقرأ خبر الإقالة استمرت نصف الدقيقة بينما كانت الرسائل النصية قد تناقلت الخبر منذ ساعات الظهيرة الأولى.
وقرأ مراقبون هذا القرار الملكي بأنه يشير إلى أن الملك قد قرر المضي في العملية الإصلاحية بصلابة تقتضيها طبيعة المرحلة المعقدة خصوصاً أنه يرفض المساومة في أمور تتعلق بخدمة الإيمان والعلم والمملكة. وتعد الجامعة احد المشاريع الرئيسية للملك عبد الله الذي يشجع الإصلاحات منذ توليه السلطة في 2005.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق