السادسة إلا ربعا من صباح الأربعاء. ثلاث ساعات فقط هي التي إستغرقتها إغفاءة
سريعة في فندق متواضع. إستيقاظ تتبعه رحلة أخرى، ومحاولة جديدة للوصول إلى مسرح
المواجهة الذي كان مغلقاً وقتها.
الرس استيقظت باكراً وبدأت تمارس طقوسها : صباحها متألق جداً وانسيابي. الحركة
طبيعية في الشوارع،والحوانيت، كأن شيئاً لم يكن. يجمع سكانها أن ماحدث شيء غريب
عليهم ، ولكنهم لايخفون ان الكثير هنا يتعاطفون مع المتشددين .
أحدهم قال إن بضاعتهم ردت إليهم . القصيم منطقة توصم بأنها منبع لرؤية دينية
متشددة . ولكن سكانها يعتبرون أنهم يطبقون إسلاماً صحيحاً ونقياً. لا أحد يمتلك
الحقيقة المطلقة ، ولكنهم يبدون متفقين حيال الأعمال الإرهابية ورفضهم لها .
كنت اتصلت في اول ساعات الصباح بأمير منطقة القصيم الأمير فيصل بن بندر وأخبرني
انه سيقوم بزيارة المصابين من رجال الأمن في مستشفى الرس العام . لم يحدد لي وقتاً
ولذلك اخترت ان أصل باكراً .
قبل ذهابي إلى المستشفى عرجتُ على مسرح المواجهة محاولاً الدخول ولكن الرفض
تكرر. حاولت ان أمارس حيلة كما احتال غيري ولكن الحيلة نقلتني إلى مركز الشرطة. رغم
محاولاتي الدبلوماسية مع رجال الامن إلا أنها كلها لم تعفني من ضرورة الذهاب إلى
مركز الشرطة .
مركز شرطة الرس: بناء هزيل ، وبهو مترب جداً ، وبزة عسكرية استلقت على طاولة
.
المقدم صالح الخليفة يمر أمام ناظري وهو يجري اتصالات هاتفية . علمت انه المسؤول هنا، ولذلك بادرت ولجأت إليه فور إنهائه المكالمة.
المقدم صالح الخليفة يمر أمام ناظري وهو يجري اتصالات هاتفية . علمت انه المسؤول هنا، ولذلك بادرت ولجأت إليه فور إنهائه المكالمة.

الآن بإمكاني التربص بالمكان ولكن من الخارج. وصلتُ إلى جزء آخر من الطوق الأمني
وحدث ماحدث . أخبرتهم أنني قضيت لديهم أكثر مما قضيته في فندقي. ولكن جوابهم أنه لا
بد من التثبت .
جاء دور اللاسلكي: سؤال وجواب وتأكيد . وانتظرت لديهم إلى أن يجيب المسؤول على
إشارة اللاسلكي . إنبعث صوت أعرفه قائلاً: لم يصرح بدخول الموقع لأحد ، من الخارج
اتركوه يفعل مابدا له، تحدثوا معه بطريقة حضارية وأخبروه ان الأذن بالدخول لن يأتي
إلا ليلاً . سمعت ذلك بأذني وكان ذلك صوت المقدم صالح الخليفة .
تحدثت مع الجنود المرابطين أمام هذه النقطة . بدا لي أن مزاجهم معتدل بعد ان
أنهوا لتوهم وجبة إفطارهم. كانوا ودودين جداً وتحدثوا بإسهاب . بينما كنا نتحدث أتت
سيارتان من أحد المواطنين تحمل أغذية مجانية لرجال الأمن .
أمام عيني يتراءى حي الجوازات الذي شهد أكبر المواجهات بين رجال الأمن ومسلحي
القاعدة . الشوارع خاوية على عروشها ، المحلات مغلقة وكأن إضراباً عمالياً يشل
الرس.
طائرة عمودية تحلق في الأفق ، وتقوم بجولات متتالية داخل الحي ،ووسطه، وعلى مداخله .
طائرة عمودية تحلق في الأفق ، وتقوم بجولات متتالية داخل الحي ،ووسطه، وعلى مداخله .
تحلّق جمع من طلاب المدارس المغلقة التي لم يستطيعوا الدخول إليها أمام نقطة
قريبة من الحي . أخبرني أحدهم أنه في بداية أيام المواجهة "لم تكن الطائرة العمودية
تحلق بمثل هذا الدنو" . هذا مؤشر جيد .
ويقول لي رب عائلة أنه ينتظر السماح له الدخول ليعود إلى منزله . خرج هو
وعائلته ولكنه لم يستطع العودة . أضطر إلى إستئجار شقة مفروشة ، و لم يكن يحمل
مايكفيه وعائلته من الملابس، والأغطية .
في جبهة مبنى حديث تمركزت طلقتا رصاص عشوائيتان من المواجهة . الرصاصتان إستقرتا
في مبنى كلية العلوم الصحية بالرس حفرت حفرتيين بارزيتين للعيان .
ذهبت إلى مستشفى الرس العام حيث يتواجد مصابو المواجهة من رجال الأمن . قوى
الأمن السعودية فرضت حوله طوقاً محكماً . وقامت بالتشديد الأمني على داخليه . لم
يكن يدخل سوى المصرح لهم ، أوالمرضى الذين يبرزون أوراقهم . حتى النساء لم تشفع لهن
نون النسوة في أن يستثنين من الإجراءات .
منعتُ من الدخول في تلك اللحظة باعتبار المستشفى منطقة مغلقة . وفي انتظار
محاولات السماح لي هبطت طائرة تابعة للدفاع المدني في باحة المستشفى . كان المهبط
قريبا من البواية ولذلك تسنى لي مشاهدة ماتحويه.
الجثث تهبط من السماء .هذا هو الوصف بلا سوريالية أبداً . كانت جثث الإرهابيين
القتلى ملفوفة بقصدير مقوى ، ويتم نقلها من قبل رجال المستشفى من الطائرة إلى
الداخل . رائحة الموت تنبعث، وتتكاثف.
محاولات الدخول فشلت وأنا لا أملك الوقت . كان لابد لي من العودة إلى الرياض
لمتابعة اعمال أخرى . قررت العودة ومضيت إلى أن عثرت على الطريق الموصل إلى الرياض
العاصمة. حيث تتجه بوصلة القلب .
خلفي كانت الرس تتوارى ذرةً ذرة ، وتستحيل إلى ذكرى منحوتة في الذاكرة . هنا حيث
المعركة المفصلية ضد قوى الرجعية والظلام . أغادرها لا ألوي على شئ سوى أن أضمخها
بالصلوات لئلا تعود لمثلها .
حين التفتُّ فجأة إلى الرس، التي تختفي ،خيل إلي أن ملائكة الرحمة بدأت تحلق
بأجنحتها الفردوسية في الفضاء الرحب.
كم بدت الرس جميلة ووادعة آنذاك .
كم بدت الرس جميلة ووادعة آنذاك .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق